23 سبتمبر 2025
Oroub Binsulaiman

نسغ : حوار بين النخلة والروح

حين يلامس الفن الإدراك والحواس، فإنه لا يكتفي بخلق متعة جمالية، بل يفتح وعيًا جديدًا بالبيئة من حولنا، ويستحضر إحساسًا بالمسؤولية تجاهها، ويدعو للتأمل في الهوية والانتماء. في واشي بلوم ننظر إلى فن تنسيق الورود بوصفه مساحة يُعاد فيها اكتشاف علاقتنا ببيئتنا وهويتنا وأرضنا، لا سيما عندما تكون المادة نفسها من نسيج وروح  الأرض التي نقف عليها.

النخلة في وطننا أكثر من شجرة ، إنها ذاكرة وهوية ورمز وطني يختزل علاقة الإنسان بأرضه وبيئته. فمنذ قرون شكّلت موردًا للحياة ومصدرًا للغذاء والمأوى والحرفة، حتى غدت علامة ثقافية راسخة وحاضرة في كل المحافل. بهذا المعنى، لا تُختزل النخلة في وظيفتها، بل تتحوّل إلى أرشيف حيّ للذاكرة والهوية، وتحمل إرثًا من الصمود والكرم والجذور المستدامة.

 



في هذا السياق، يأتي «نسغ» ليجسد تلك العلاقة العميقة برؤية معاصرة. يعيد العمل صياغة العناصر الطبيعية للنخلة ، السعف بانسيابيته، والجريد بصلابته، والليف بخشونته ، في تكوين بصري مبتكر يحمل في جوهره قيم الاستدامة والتشبث بالجذور. لكل عنصر رمزيته: متانة الجريد تستدعي الثبات، انحناءات السعف تومئ إلى المرونة والتجدد، فيما تنعقد خيوط الليف لتربط الأجزاء في نسيج واحد، مجسدة التلاحم الروحي والمادي. ومن المعلوم أن كل جزء من النخلة ذو منفعة تاريخيًا؛ من الجذع إلى الليف، إذ استخدم في البناء والحياكة وصناعة الأدوات. يستلهم العمل هذه القيمة ليمنح مفردات النخلة حياة جديدة، مؤكّدًا فكرة الأبدية والاستمرارية.


هنا لا تُفرض صورة جاهزة على الطبيعة، بل يُصغى إلى ما تقترحه الخامة نفسها. تنسجم هذه المقاربة مع فلسفة فن الإيكيبانا اليابانية اللتي ترى أن الجمال الحقيقي يكمن في الروح التي تسكن المادة، لا في شكلها الظاهر. يتحول النسيج إلى حوار، والعقد إلى علامات اتصال، والفراغات إلى مساحات للتأمل، في علاقة تجعل الإنسان جزءًا متداخلاً مع بيئته.


يحمل عنوان العمل دلالة جوهرية؛ فالنسغ هو عصارة الحياة في عروق النخلة، يربط جذورها الغائرة بالتربة بسعفها الممتد نحو السماء. وقد عُرف نسغ النخيل في حضارات قديمة بأنه شريان الحياة لدوره المحوري في البقاء والتجدد. هنا يصبح النسغ مجازًا للحياة الروحية الكامنة في المادة، وتعبيرا عن الابدية .


بهذا يغدو «نسغ» كيانًا فنيًا حيًا، يستمد رمزيته من شجرة مباركة لطالما مثّلت العطاء والصمود، ويقدّم رؤية شاعرية للتكامل بين الطبيعة والفن. وإلى جانب جماله البصري، يحمل العمل رؤية بيئية واضحة؛ فقد خضعت خامات النخلة لمعالجة خاصة تحافظ على لونها وملمسها الطبيعي لسنوات، بخلاف الاستخدام التقليدي للسعف المجفف. هذه التقنية تجعل من الخامة النباتية قابلة للحياة والاستمرارية، وتترجم التزامًا بالاستدامة عبر إعادة صياغة الموارد المحلية، لا كمواد استهلاكية، بل كقيمة ثقافية وجمالية طويلة الأمد


إن «نسغ» في مجمله يقدم تعبيراً بصريًا عن الهوية والاستدامة. فهو يلفت النظر إلى إمكان تحويل خامات طبيعية مألوفة إلى تشكيل جمالي ذي معنى، ويؤكد أن تفاعل الإنسان مع الطبيعة يمكن أن يفتح مساحة رحبة لإحياء التراث بشكل مبتكر. يقف العمل  كمنحوتة طبيعية تحمل في تفاصيلها قصة الأرض والإنسان؛ حوار صامت بين التراث والحداثة، بين الروح والمادة.

  

  • عروب العنقري

 نسغ  :شريان الحياة للنبات*

 

تم التحديث September 28, 2025